القديس مارون

ولد القدّيس مارون في منطقة حمص في سوريا، وقد كتب سيرة حياته تيودوريتس الأسقف، داعِيًا إيّاه مارون الناسك. عاش مارون في جبل قورش في أواخر القرن الرابع، خطا نـهجًا نسكيًّا تـميّز بالتقشّف القاسي؛ لذا، يعتبر مارون أبا النساك فيها، والرائد لطريقة نسكيّة جديدة في الحياة الرهبانيّة السريانيّة ومؤسِّسًا لـها، إذ إنه أطلق نـمطًا حياتيًّا روحيًّا، وهو العيش في العراء، أي في الطبيعة بدون سقف أو غطاء، مـمّا دفع بالعديد من الـمؤمنين، رجالًا ونساءً، إلى التتلمذ على يده. عندما نُفي القدّيس البطريرك يوحنّا الذهبيّ الفم من كرسيّه، أرسل من منفاه إلى مارون الكاهن والناسك رسالة بين العامين 401 و407، يطلب فيها أن يذكره في صلاته. 


بعد أن أتـمّ مارون سعيه مزيّنًا بالقداسة، رقد بسلام الربّ حوالى سنة 410. على الأثر نشأ نزاع بين القرى في جوار منسكه، وكلٌّ حاول أخذ جسده. ولكن كانت هناك على الحدود بلدة كثيرة الرجال، أقبلت وانتزعت ذلك الكنزَ الـمرغوب فيه جدًّا. رحل القدّيس مارون، ولكن ما إِن غادر هذه الحياة حتى انتشرت مدرسته فتقاطب إليها الألوف نسّاكًا ورهبانًا، إنطلاقًا من سوريا إلى لبنان، وقبرص، وفلسطين، ومصر، فإلى أوروبا وأميركا، وأستراليا، والعالـم أجمع.


إلى القدّيس مارون تنتسب كنيستنا المارونية، الّتي تعتبره أبًا لـها، وتتميّز ما بين الكنائس الـمحليّة بأنّـها الوحيدة التي تحمل ٱسم قدّيس ناسِك. وما زال أبناء الكنيسة المارونيّة، مقيمين ومغتربين، في أربعة أقطار العالـم يستشفعون دائمًا أباهم القدّيس مارون.



روحانيّة القدّيس مارون

لَم يَعرِفِ القدّيس مارون حدًّا وَسَطًا في الْتزامِهِ النُسكيّ. كان شُغلُهُ الشاغل قهرَ الخطيئة والضعف والـموت في جسده من أجلِ أن يَلبَسَ الـمسيح. لذا نراه تَفَنّن في قهر نفسه كي يفقدَها في سبيل البحث عنها في الـمسيح. فهوَ سَلَكَ في العراءِ مُفتَرِشًا الأرضَ ومُلتَحِفًا السماء. وتلك الجدّيّة في الالتزام هي خاصّةٌ من خصائص النُسكِ السريانيّ. وتقتضي هذه الطريقة في السعي الروحانيّ عنادًا مقدَّسًا وتوبةً متواصِلةً غايةً في القساوة، وتهدف إلى تحويل النفس الـمشرَّعة على الشرّ وقواهُ إلى مسكنٍ لله. والـمغالاة في الإماتات هي استباقٌ للـموت بهدف قَهرِه، وجعلِهِ مُجَرَّدَ حَدَثٍ من أحداثِ حياةٍ إنسانيّة تبدأ بالولادة وتستمرُّ وتكتملُ بالـموت.

لقد عاش مارونُ في حربٍ روحيّة دائمة وشَرِسة ضِدَّ قوى الشرّ الّتي تُسبِّبُ فسادًا في العالَمِ. تقتضي هذه الحرب حراسةً للجَسَدِ والقلب. تقومُ حراسةُ الجَسَد على ترويض الحواس الخمس، إذ يُجهِدُ الناسِكُ نفسَهُ في مراقبة عبور فسادِ العالَم من خلالِ هذه الحواس إلى الذات البشريّة. أمّا حراسة القلب فتقومُ على صَدِّ الأفكار الشرّيرة، ومنعِها مِن تكوين الـمشاعر النَجِسة في الإنسان. اشُتهِرَ مارونُ ببطولةِ فضائلِه وخُلُوِّ حياتِهِ من الرذائل أو الأفكار الشرّيرة، وقد حَوَّلَ ذاتَهُ وكنيسَتَهُ وأرضَهُ إلى مساكنَ لِحُلولِ الربّ.

كانت الصلاة بالنسبة إليه هواءً روحيًّا يتنشَّقُهُ في كُلِّ لحظة، وكأنّ لا حياةَ لهُ في الـمسيح بدونِها. أدرك مارونُ بأنّ الصلاةَ هي الحياةُ مع الله وفيه، وبأنّها الوسيلةُ الفُضلى للاتِّحادِ بهِ. كانت صلاتُهُ إصغاءً لصَوتِ الربّ يُحّدِّثُهُ من خلالِ الإنسانِ الـمُعَذَّب ومِن خلالِ الطبيعةِ الـمتألِّقَةِ الجمالِ في آنٍ معًا. جعَلَت هذه الصلاة منهُ حكيمًا في زمانِه، إذ أضحى مرجعيَّةً لأبناءِ عَصرِه، ومنارةَ ٱسترشادٍ في أزمنةِ الـمِحَنِ والصعوبات.

إرتضى مارونُ الضعفَ البشريَّ على أنّهُ مستَقَرٌّ لقوّة الله لأنّ قوّة الربّ لا تكمل إلّا بالضعف (2 قور 12 : 9). فالضعف هوَ الطريقُ إلى القوّة، وهوَ شَرطٌ لا بُدَّ منهُ لاكتسابِها. والارتقاءُ في حياة النُسك، من مهاوي الضعف وظلماتِه يتمثَّل في صعودِ سُلَّمِ الروح.

تحوَّلَ جثمانُ مار مارون إلى ذخائر يتبرّك بها الـمؤمنون ويتنازعونَ فيما بينَهُم من أجل الحصولِ عليها. غريبٌ أمرُ هذا الناسك الذي ما إن غابَ وَجهُهُ عن العالَم حتّى عادَ إليهِ يبُثُّهُ حياةً وهوَ مَيت. أولَيسَ ذلك تأوينًا لحَدَثِ قيامةِ الربّ من بينِ الأموات؟ 

لقد غاب القدّيس مارون وكثيرون من الرهبان الـموارنة، لكنّهم ظلّوا يرتقون بكنيستِهم إلى حيثُ يسكنون، ويتجوَّلونَ في رحابِها، ويشدِّدون من عزيمَتِها حينَ تضعف قواها. هم يَتَجلّونَ، مثل الـمعلِّمِ على طابور، ملتَحِفينَ بنورٍ سماويّ، مُبَدِّدينَ كلَّ الظلمات. وها إنّ الكنيسة الـمارونيّة تُعظِّمُ الربَّ، على مثالِ مريم، لأنَّهُ نَظَرَ إلى تواضُعِ رُهبانِها القدّيسين.